قصّة طبيب في مصحّة - الجزء الثاني

 زادت الأمور فوضى بعد تناقص موظفي القسم لسبب مجهول بالنسبة لموظف جديد، وحينما تحريت عن الأمر، علمت أن الموظفين يحتجون على المرضى العنيفين الذين يسببون لهم إيذاءات كبرى. لحسن الحظ أن المسن الذي تحت رعايتي، مُجرد غريب أطوار داخل رأسه، إنه لا يصرخ أو يقاوم، حتى وإن ساورته بعض الإنفعالات من حين لآخر. 

 

جلست في الظهيرة أمام باب غرفته، واستلقيت برأسي على المكتب الصغير، وأخذت غفوة لا أعرف كم مدتها… رن جرس التحذير وبدا اللون الأحمر يخترق مقلتي، لقد كان مريضًا آخر يحاول طعن طبيبه. 

 

وحينما ذهبت للإطمئنان على العجوز، وجدته جالسًا على طرف النافذة العالية، ويا للغرابة أنها كانت مفتوحة! 


بدا وكأنه سيقفز في أي لحظة، لكنه عوضًا عن هذا، سينتظر القفزة أن تفعله لا ان يفعلها. بت أعرفه! ولجنونه أعتقد أنه يريد ذلك ولكنه محبوس في عجزه. 

 

وعندما حان وقت الجرعة المسائية، وجدته مستلقيًا، كفيل ضخم نجح سوط البشر في ترويضه، اقتربت منه دون أن أنبس بكلمة وباشرت الإجراءات الروتينية. 

 

لف مضجعه ليقابل وجهي، ثم تمتم بوقاحته المعهودة: أنت تعيس، أتدري؟ ولن تستطيع أن تنفي، فأنت كسائر البشر، محبوس في هذا النظام اليومي، بل أنت أحد مجنّديه… ستحصل على مرتب، ثم تشتري خاتمًا، ثم حفاظًا، ثم محامياً على وصيتك. ستفكر بكيف تبدأ يومك؟ وكيف ستنتهيه؟ رغم أن التعاسة تسيّرها. تصرخ منفعلاً إن عكر مزاجك أحد، وعينك بجيحة وقاصرة… تمتلك جملةً من الفروض وهذه إحداها *يؤشر على الإبرة بيدي المغروزة في كتفه* وقد نجح النظام في حيونتك، لقد خُتنت إنسانيتك مع ولادتك. أيها الأحمق! أنت وهذا… وهذا الزيّ! 

 

شيئًا فشيئًا ارتد صوته للداخل، وبدا يزمجر، وكأن أنفه يريد إلتقاط الأنفاس بينما فاهه يريد إهدارها في الشتائم. 


شعرت بألم في صدري، وأنا أحس أن الأجل يداهمه رغم وجود ما لدي لنفيه ردًا على تلك التُهم… تتبددت أجزائي أمامي… أعساني سأنفق مالي كما قال؟ ولكني… لست كذلك. أوليس مبكرًا بعض الشيء، الحكم على شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرون من عمره؟ 

 

قاطع أفكاري دخول الطاقم الطبي بعدما ثبّت عيني على إبرتي وجمدتني الأسئلة المتدفقة، وحين رفعت عيني قليلاً وجدتهم يعلنون بأنه قد توفي. وبدأت أدون على الأورق بدقة… في السابعة من إبريل، من العام ألف وتسع مئة وتسعين، الساعة الحادية عشر مساءً، ذهب للسماء… فلتكن موطنًا حنونًا له…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصّة طبيب في مصحّة - الجزء الأول

القصة القصيرة الفائزة بمسابقة بيت السرد 2021 : قصة بعثُ فكرة