القصة القصيرة الفائزة بمسابقة بيت السرد 2021 : قصة بعثُ فكرة

قصة: بعثُ فكرة - الكاتبة: شهد العنزي 

*تخضع هذه النصوص للملكية الفكرية السعودية على ألا تنسب لغير صاحبتها*

مضت عشرون سنة تحديدا عندما فكرت في الفكرة آخر مرة، والآن ها قد شارفت على بلوغ مواطن الأربعين وبدا الرقم الجديد لايخلو من ملامح تشبه ملامح المراهقة الأولى. عدت لأفكر بالإعتزال مجدداً، خرجت الفكرة كجسارة طفل مخاصم لمحيطه: أن أذهب لرأس جبل، ولا يهمني إن كنت سأموت مأكولاً من طيور جارحة لا أعرف حتى أسمها أو من فطر سام يستميل شهيتي. 

كان كل ذلك الوقت الذي قضيته من حياتي مشوبًا بالألم العميق، بلا أي سبب أحياناً. وحياتي لم تكن فريدة قط. أما الشركة التي أدير، والتي كانت تبدو أكبر مشروع هام عملته في تاريخي أصبح سيره مخيبا بعض الشيء - وإن كان مربحا - فكلما كانوا مرؤوسيني أكثر احترافية  كلما قل إحتياجهم لي. لأصبح مجددا، في مكان أحببته كثيراً، مجرد شيء غير فريد، لوحة معلقة؛ خالية من أية فرادة.

 

لم تكن شخصيتي مختلفة عن أي رجل تقليدي في أي مجتمع يتشارك فيه الرجال العاديون نفس الصفات. كنت مزيجًا من العادية والعادية. والرتابة من أصولي. لكن عندما ضخت هذه الفكرة نفسها في رأسي مجدداً، شعرت أن نبض الحياة، ولأول مرة، يفاجئني بإيقاع يدعو للرقص. حتى وان كانت فكرة العزلة تكتسي بشيء من الألم عند الجموع، إلا أن التفكير الفردي بإحتمالاتها تجعل الإنسان يحس بإنقاذ روحه.

 

 

كان أول وقع للفكرة في سن الشباب، وليس سن الشباب للعزلة ابدًا. أظنها هربت مني لردة فعلي العنيفة بالكبت، فكانت كلما تساورني أواجهها بالحفلات الصاخبة. ولطالما كانت هذه طريقتي؛ في عدم السماح للأفكار في رأسي أن تحظى على أصواتها الخاصة. لكن لو أن الزمان عاد، لتبنيتها في مقتبل العمر، ولبنيت حياتي على المجهول ما دام أنه على الأقل واعدٌ بتجربة فريدة.

 

 

الناس.. كنت أعرف أني بشريٌ لكن دون أن أكون واحداً من الناس. ثم أنه كان من المستحيل أن أوقف كل هذه العلاقات -البائيةُ بالفشل- على عَتبة الأبد. قررت سحب نفسي من هذه الأوساط بعد تلك الفكرة التي قوّت نفسها وأصبحت جهنمية، فرغم أوجه التقليدية فيني إلا أن من يعرفني حق معرفة سيعرف أني أحب القيام بالإصلاحات من ذي النوع غير-المتقاعس. كنت مدركاً أني أحد نتائج التعليم الآتِ : أن على المرء أن يماشي رغبات من حوله بدلاً من رغباته هو. 

 

خرجت بالفعل دون أن أنبس ببنت شفة لأحد، قطعت التواصلات الهاتفية، غيرت قصة شعري، إرتديت أزياء أقل رسمية وتكلفاً. لم أضع عطر ديور-سوفاج الذي كان ينمطني لأبعد مدى! كما أن رائحة هذا العطر، هي الرائحة العطرية لكل رجال الأعمال. -ثم أريد لرائحة الطبيعة أن تلتصق فيّ، وتكون هي معرّفي الفريد-

 

كانت منشورات الإنترنت لاتصور الجبال إلا للزيارات الإستكشافية أو التسلق، لكني لم أتوقف عند هذا الحد بالبحث، وأستعنت بعلاقات العمل التي تمتلك خبرة واسعة عن الجبال والأماكن الجبلية. صعقوا بعض زملائي عندما أحسوا أن استفساراتي لا تتعلق بالعمل، بل يبدو وكأني سأفعل شيئاً غير معهود. ورغم تلمّسي لهذه الفطنة فيهم، لم أكترث. ومررت برحلة إنقضت بعد اثنا عشر ساعة، وكانت محطتي المنشودة في آخر المدينة التي تقبع سلسلة الجبال الشاهقة على أطرافها.

 

وجدت من يقلّني وكان هذا هو الأمر الأهم، ثم ركزت على هدف قضاء أيام معدودة في العزلة داخل الجبل الذي بدا لي من بعيد صالحاً لمغامرتي تلك. كان تسلق الجبل هو أصعب جزء في الرحلة، فإصابات الكاحل السابقة لدي لم تلتئم إلتئاماً كاملاً، غير ان يديّ قويتان. تسلقت لكن بشق الأنفس، فقد ساورني الإحساس بالدوار ايضاً. لم يكن سهلاً! لكني وصلت إلى الجبل الذي كان شبه معبّد -ربما يكون بفعل فاعل- ولحسن الحظ أني وجدت كهوفاً صغيرة داخل الجبل، بيوت من الطبيعة. سرت لأطّلع على كافة جهاته وأتفرسها ثم دخلت الكهوف الصغيرة على حدا، قمت بتقسيم الجبل مبدئياً إلى غرفتي، دورة المياة، الصّالة، المطبخ… وكم كان هذا تقسيماً جنونياً لبشري نسي بربريته وأستبدلتها الحياة المدنية بقواعدها. 

 

لم يسبق لي قط أن ذهبت لرحلات برية، والفضاء بلا سياج سبب لي رهبة لم أكن أتصورها لكني كنت مستعداً لأي أمر قد يطرأ في هذا المكان المعزول. 

إستقريت، وبدأت أجرب العيش في ظلّ العزلة الحقّة. فكرت بالفكرة، ثم بما فعلته حيالها، فتكشّف لي أن الأمر تسهّل بشكل لا يحدث سوى في المخيلة الخصبة، بطريقة لم تكن بالحسبان! لا أشعر بالجوع رغم أن بطني تقرقع، ولم أشعر بالبرد رغم التيار البارد، ولا أكف عن الشعور بالرضا منذ جلوسي على هذه الأرضية القاسية داخل الكهف. 

بدأت عزلتي باللافعل، وكان هذا سهلاً وصعباً في نفس الآن. ففي الصمت تُعلن الأسرار، وتُسكب الدموع، وينزفُ شيء ما.

مارست الصمت كثيراً، كما قد كتبت وقرأت بصفوٍ جديد، ثم حاولت ممارسة بعض الأمور اليدوية كإشعال النار ورتق الأقمشة. 

 

مالم أشهده في حياتي ابداً هو هذا التدفق الكامل أثناء فعل شيء ما غير رتيب، فكنت عندما أحيك جورباً أجد نفسي ذائباً داخل العملية، وكنت عندما أكتب أنكب على الكتابة دون عصر الأفكار، بل على العكس تنساب إلى الأوراق بسلاسة.. عاد كل شيء لنغمته. تلك النغمة التي تخلّفت حياتي عنها! تنفست الروح الصعداء، ثم أَدركت إدراك العمر كُلّه؛ أن أَمتن ماسيُبنى فيّ أثناء العزلة.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصّة طبيب في مصحّة - الجزء الثاني

قصّة طبيب في مصحّة - الجزء الأول