قصّة طبيب في مصحّة - الجزء الأول

إنه اليوم الأول الذي أخرج فيه من غرفتي كعاطل، نحو خطوة أخيرة لتقلّد أول منصب وظيفي بعد صراع مضني مع سنوات التخصص. ارتديت أنصع الملابس وشددت أزرارها عطرًا، ارتديت حذاءً جلديًا أسود لم يرتدي مثله أي طيار، ولم أكن على أي حال أرتديه إلا في المناسبات الكبرى. وعندما وصلت إلى ذلك المكان النائي، الذي يشبه جبلاً من الوحل ببنائه، أو يشبه مقبرة مجتمعة لكل البشر، ارتعدت فرائصي، وأكد الخوف نفسه بداخلي.. هل هذا ماكنت أخشاه منذ البداية؟ هل هذا ما عارضت والداي من أجله؟ وأخرج الخوف صوته من فاهي "هل رأيت؟ هل رأيت؟ سينتهي بك الحال في أروقة يعبرها المجانين، ناهيك عن أنك لن ترى بيئة نظيفة، أو أثاثًا، أو ورودًا، إنهم يبعدون كل شيء عن أولئك المجانين. كل شيء يمنح المكان بريقاً طبيعيًا سيكون غائبًا، وأنت لا تستحمل البقاء في مكان كهذا" توقفت لبرهة عند المدخل، رغم وجود الممرضة التي تحمل ورق تحضير على بعد أمتار، إلا أن خطواتي تجمدت بفعل الصراخ والنداء للمرضى، حملقت عيناها فيّ وأضطررت لصنع إبتسامة غبيّة والمضي إليها. 

 

وعندما أدخلتني وجدت سيلاً من المقابلين الذين ترن هواتفهم ويجيبون على المتصلين بإمتعاض، فبالكاد تمكّنت من الجلوس وحيازة إنتباههم، ثم صارحتني واحدة منهم ويبدو أنها لم تعد تحتمل التصرفات الرسمية: إسمع ياهذا… إن لم يكن بإستطاعتك اليوم المباشرة، فلا تضيع وقتنا، نحن بحاجة عاجلة لدكاترة نفسانيين، والمنشأة لديها من الظروف مالا يمكن تحمله من قِبلي، لكني أؤكد.. أن ليست لدينا ظروفًا مع المال، بل في نهاية أول يوم لك، ستنال مظروفًا من المال… وأثناء تتابع كلامها لم أصدق أن هذا المسار الذي اتخذته أحداثي اليومية، فلم تمض ساعتين حتى على إستيقاظي الهادئ! 

 

قبلت للهروب من الضجر والفشل، ولم أصدق ما قلته لهم: نعم… حسنًا… أستطيع فعل ذلك! والإبتسامة المصطنعة ذابت إلى حد أنها رسمت على ملامحي هلعًا واضحًا، لكن الجميع تجاهل تعابير وجهي وركز على المعضلة الحاصلة. التي بدا لي وكأنها قيامة تحدث. 

 

…: جيّد فقط أمهلنا بضعة دقائق لطباعة العقد.

 

وقعت العقد وأتممت الإجراءات، فأتت ممرضة أخرى لتنزيهي والتعريف بالمكان، عدا أني نفضت عن وجهها الإبتسامة الرسمية بصرخة مُفاجئة: لا… أرجوك… أريد أن…  سأتعرف بالمصحة بنفسي، هذا أكثر إثارة للفضول، أليس كذلك؟ رمقتني بنظرة لا مبالية، فذهبت تسلك الإتجاه الذي جاءت منه. 

 

 

كان أول مريض في عهدتي، هو مُسنٌ غريب أطوار؛ سقطت كل أسنانه لكنه مازال قادرًا على المضغ، نمت شعيرات كثيرة على أنفه لكنه يسحب أنفاسًا عميقة. لم أدخل عنده ولم أعرفه على نفسي، لقد كنت أتابعه خلف الزجاج، وأقترب منه بالكاميرا. وحين أتى المشرف وأخبرني بالقواعد والضوابط، فتح الباب بيني وبين المريض، ثم أقحمني كما لو أنه يجبر طفلاً على أن يسلّم على شخص بغيض. 

 

وعند دخولي، لم يدر ظهره هذا العجوز الوقح، وأكتفى بشتم المشرف ثم عاد للإضطجاع وهو يُنشد بصوت يشبه تقشّر شيء ما. خرج المشرف وهو مشحون بتأدبٍ بغضبه، ثم تركني ووصاني بأن أعطيه الجرعات بذات الترتيب الموجود على الورق. 

 

وعندما اطفأت الأنوار، وأبقيت الخافتة منها مشتعلة، معلناً بأن الليل قد انتصف، حتى لف ذلك العجوز وجهه وكأنما انتظر هذه الإشارة، وصوّبت بقعة ضوء ملامحه وتقاسيمه: لقد كان بشعًا جدًا! 

 

فأرتعدت خوفًا من شكله بالغ القبح. بدا وكأنه أحد الأشرار الخياليين.. لكن وبسذاجتي، ذهبت لكي أسلم عليه مجددًا، محاولاً أن أكسر صمت الوحدة القاتم في رواق المرضى: مرحبًا… أنا… أنا عزيز، طبيب جديد في المصحة. هل… هل لي أن أعرف اسمك؟ 

 

وبشتيمة منه بدأ التحدث معي بإقتضاب، لحين تدفق مخارج حروفه وإخباري عن الحروب الذي خاضها في حياته، وكانت الحروب في داخل كل إنسان عرفه أكثر وأضرم من حروب الأرض مجتمعة، لقد أدمته الساحات، ومسحت على سحنته آثارا جعلت توازنه في الحياة معدوما. وطوال إستماعي له، تقلبت ما بين إحساس كره وبغض، وتعاطف وإنجذاب. إنه كقرصان جرّب الموت في البحار، وظل يجربه، حتى لفظه الموت للضفة الأكثر أماناً: الجنون. 

 

 

وكنت متأكد بأنه يشعر مثلي، بأنه لم يكن يصدق شكله الخارجي، والتشوهات الصغيرة التي جعلته كوحش أو مخلوق فضائي. فقد كان قبيحًا للحد الذي يجعله يقسم بين حديث وآخر، أن لوجهه ثأرًا مع عقله، وأن كل مازادت أفكاره ألقًا، زادت تقاسيمه عفونة.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصّة طبيب في مصحّة - الجزء الثاني

القصة القصيرة الفائزة بمسابقة بيت السرد 2021 : قصة بعثُ فكرة